طلب العلم نور يضيء دهاليز مظلمة في نواحي الفكر و يسلط الضوء على خبايا كانت هامدة غائبة أو مغيبة. حين تسلك درب طلب العلم تميط الغطاء عن جراحات قديمة و إصابات و علل في الفكر و النفس بعضها ناتج عن كونك لم تحرك يوما ذلك الماء الراكد في بركتها. البعض الآخر ناتج عن تراكم اخطاء شخصية و خارجية في التعامل مع العلم لسنوات صنع منك “اللا نظام” التعليمي مسخا لا أنت بالجاهل و لا أنت بالعالم و لست حتى ممن يحس انه قطع خطوات منهجية في طريق طلب العلم.
طلب العلم الحقيقي هو الذي يزعزعك، يضعك في مواجهة مع عيوبك و ضعفك، مع تعالمك و تعاميك عن عيوب الفكر. زعزعة شاقة لكن ترى في طياتها أكبر نعمة حينما تتمكن إثرها من مراجعة الأوراق و زعزعة القناعات و إصلاح الرؤية و تحديد الاهداف للبدء من جديد في طريق طلب العلم. في طريق علم يصنعك كطالب للعلم قبل ان تحصل العلم نفسه. طلب العلم رحلة للرقي بالذات الانسانية، و سيلة لفهم ذواتنا و فهم العالم من حولنا و وضع لبنات في بناء الحضارة الانسانية، و قبل ذلك و بعده سبيل للارتقاء بالروح نحو العلم بخالقها و حسن عبادته اللذان هما سر السعادة و الفلاح. و أنت تقرأ علومنا كمسلمين تشعر بالفخر بالانتماء لأمة هؤلاء هم علماؤها و ذاك علمها. الجهل بعلومنا جعل الكثيرين يظلمونها لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. و صدق الشاعر إذ قال:
أتانا أن سهلاً ذم جهلاً ….. علوماً ليس يدريهن سهل
علوماً لو دراها ما قلاها ….. ولكن الرضا بالجهل سهل
تسربت أو سُربت إلينا افكار خاطئة من نظرة المجتمع المهينة لمفاهيم عديدة كالجد و الحفظ. كثيرا ما يتم ربط الحفظ بدرجة محدودة من الذكاء في تغافل عن كونه مهارة يحتاجها الانسان تماما كما يحتاج المهارات العقلية الأخرى من تحليل و استنتاج و ربط و غيرها. الحفظ في ديننا حفظ رعاية و العلم أمانة. النجاح في طريق طلب العلم هو أن يبني المرء نفسه عبر العمل بما يعلم، و كلما ارتقى درجة انفتحت أمامه عوالم أوسع و آفاق ارحب ليردد قول الإمام الشافعي رحمه الله:
كلما أدبني الدهر أراني ضعف عقلي
و إذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي
في زمن أصبح فيه كل ناعق ينعق بما لا يفقه ظلمنا حضارتنا و تنكرنا لهويتنا و لغتنا تحت مسميات حق أريد بها باطل كالانفتاح و الحرية و الابداع. نسبنا إلى ديننا ما هو منه براء من جمود و انغلاق و تعقيد. الإبداع يبنى على أسس صلبة بالاستفادة من تراكم التجربة الانسانية و النتاج المعرفي السابق أما الانطلاق من الصفر فغالبا ما يوصل للصفر.
نشهد اليوم أخطاء منهجية في التفكير ولعل ذلك ناتج بشكل كبير عن مدارس و مؤسسات صارت أعجز عن اسعافنا بأشخاص يمتلكون معارف مفيدة و مفعلة في الحياة الفردية و الاجتماعية فضلا عن بناء الفكر من خلال تكوين عقل منهجي و فرد فاعل في المجتمع.
مجموعة منا خرجوا من مسارهم التعليمي بمجموعة من المعلومات أو الشهادات التي أوصلت البعض إلى فرص للعمل، لكن أحسب أن القلة المحظوظة هي التي خرجت بفهم أعمق و إدراك للأمور و زيادة في التعطش للاكتشاف و فضول معرفي لم يوؤد في مهده كما يحدث للكثيرين للأسف في الأسرة و المدرسة و المجتمع. نحتاج حقا أن نتجاوز هم النجاح في “لا نظام” فاشل إلى منظومة تعليمية و واجتماعية تعلمنا كيف نتعلم و نعمل بما نعلم.